سورة فصلت - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


قال ابن عباس: نزلت في الصديق، قال المشركون: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عنده. واليهود: ربنا الله، والعزير ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيما، والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام. ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار، أردفه بوعيد المؤمنين؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني. وبدأ أولاً بالذي هو أمكن في الإسلام، وهو العلم بربوبية الله، ثم أتبعه بالعمل الصالح، وهو الاستقامة. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي، صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به، قال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت: ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: «هذا» وعن الصديق: ثم استقاموا على التوحيد، لم يضطرب إيمانهم. وعن عمر: استقاموا لله بطاعته لم يرو غواروا روغان الثعالب. وعن عثمان: أخلصوا العمل. وعن علي: أدوا الفرائض. وقال أبو العالية، والسدي: استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الفضل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقال الربيع: أعرضوا عن ما سوى الله تعالى. وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولاً. وعن الحسن وقتادة وجماعة: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي. قال الزمخشري: وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه، لأن الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى.
{تتنزل عليهم الملائكة}، قال مجاهد والسدي: عند الموت. وقال مقاتل: عند البعث. وقيل: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث. وأن ناصبة للمضارع، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم، قال معناه الحوفي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة، وأصله بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. انتهى. وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوماً بلا الناهية، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض، ولذلك قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدرون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وقال عطاء بن أبي رباح: {لا تخافوا} رد ثوابكم، فإنه مقبول؛ {ولا تحزنوا} على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم. وفي قراءة عبد الله: لا تخافوا، بإسقاط أن، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا. ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير.
{نحن أوليائكم}: الظاهر أنه من كلام الملائكة، أي يقولون لهم. وفي قراءة عبد الله: يكون من جملة المقول قبل، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة. لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين، كان أولياء المؤمنين الملائكة. وقال السدي: نحن حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل: {نحن أوليائكم} من كلام الله تعالى، أولياؤكم بالكفاية والهداية، {ولكم فيها}: الضمير عائد على الآخرة، قاله ابن عطية. وقال الحوفي: على الجنة، {ما تشتهي أنفسكم} من الملاذ، {ولكم فيها ما تدعون}. قال مقاتل: ما تتمنون. وقيل: ما تريدون. وقال ابن عيسى: ما تدعي أنه لك، فهو لك بحكم ربك. قال ابن عطية: ما تطلبون. {نزلاً من غفور رحيم} النزل: الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف، قال معناه ابن عطاء، فيكون نزلاً حالاً، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولاً لا نزلاً، وجعله بعضهم مصدراً لأنزل. وقيل نزل جمع نازل، كشارف وشرف، فينتصب على الحال، أي نازلين، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون. وقال الحسن: معنى نزلاً منا، وقيل: ثواباً. وقرأ أبو حيوة: نزلاً بإسكان الزاي.
ولما تقدم قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، ذكر من دعا إلى ذلك فقال: {ومن أحسن قولاً}: أي لا أحد أحسن قولاً ممن يدعو إلى توحيد الله، ويعمل العمل الصالح، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له، والظاهر العموم في كل داع إلى الله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة. وقيل بالخصوص، فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة. وعنه أيضاً: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة، وقيس بن أبي حازم، وعكرمة، ومجاهد: نزلت في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية، وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف. ولم يكن الأذان بمكة، إنما شرع بالمدينة، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة. وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، وهذا، والله أعلم، هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية. وكان زيد هذا عالماً بكتاب الله، وقد وقفت على جملة من تفسيره كتاب الله وإلقائه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر، يقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم، رحمهما الله ورضي عنهما.
وقال أبو العالية: {وعمل صالحاً}: صلى بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة: صلى وصام. وقال الكلبي: أدّى الفرائض. وقال مجاهد: هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاثة أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام، عاملاً بالخير داعياً إليه، ومآلهم إلى طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الإسلام. انتهى، ويعني بذلك المعتزلة، يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ويوجد ذلك في أشعارهم، كما قال ابن أبي الحديد المعتزلي، صاحب كتاب (الفلك الدائر في الرد على كتاب المثل السائر)، قال من كلامه: أنشدنا عنه الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله تعالى:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي *** ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مقام باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعاً *** بخلوة أحلى من الشهد
وأن أصول الدهر كبراً على *** كل لئيم أصعر الخد
لذاك أهوى لا فتاة ولاخمر *** ولا ذي ميعة نهد
{وقال إنني من المسلمين}: ليس المعنى أنه تكلم بهذا، بل جعل الإسلام معتقده. كما تقول: هذا قول الشافعي، أي مذهبه. وقرأ ابن أبي عبلة، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال: وقال إني، بنون مشددة واحدة؛ والجمهور: إنني بها وبنون الوقاية. وقال أبو بكر بن العربي: لم يشترط إلا إن شاء الله، ففيه رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله، ذكر ما يترتب على ذلك من حسن الأخلاق، وأن الداعي إلى الله قد يجافيه المدعو، فينبغي أن يرفق به ويتلطف في إيصال الخير فيه. قيل: ونزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ولياً مصافياً. وقال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة الشرك. وقال الكلبي: الدعوتان إليهما. وقال الضحاك: الحلم والفحش. وعن علي: حب الرسول وآله وبغضهم. وقيل: الصبر والنفور. وقيل: المداراة والغلظة. وقيل: العفو والاقتصاد، وهذه أمثلة للحسنة والسيئة، لا على طريق الحصر.
ولما تفاوتت الحسنة والسيئة، أمر أن يدفع السيئة بالأحسن، وذلك مبالغة، ولم يقل: ادفع بالحسنة السيئة، لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالحسن، أي وإذا فعلت ذلك، {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} صار لك كالولي: الصديق الخالص الصداقة، ولا في قوله: {ولا السيئة} زائدة للتوكيد، كهي في قوله: {ولا الظل ولا الحرور} لأن استوى لا يكتفي بمفرد، فإن إحدى الحسنة والسيئة جنس لم تكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا، إذ يصير المعنى: ولا تستوي الحسنات، إذ هي متفاوتات في أنفسها، ولا السيئات لتفاوتها أيضاً. قال ابن عطية: دخلت كأن للتشبيه، لأن الذي عند عداوة لا يعود ولياً حميماً، وإنما يحسن ظاهره، فيشبه بذلك الولي الحميم، وعن ابن عباس: {بالتي هي أحسن}: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة.
وقال مجاهد، وعطاء: السلام عند اللقاء. انتهى، أي هو مبدأ الدفع بالأحسن، لأنه محصور فيه. وعن مجاهد أيضاً: أعرض عن أذاهم. وقال أبو فراس الحمداني:
يجني عليّ وأجنو صافحاً أبدا *** لا شيء أحسن من جان على جان
{وما يلقاها}: الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن. وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية: وما يلاقاها: من الملاقاة. وقرأ الجمهور: من التلقي، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابراً على الطاعات، صارفاً عن الشهوات، ذا حظ عظيم من خصال الخير، قاله ابن عباس، فيكون مدحاً؛ أو {ذو حظ عظيم} من ثواب الآخرة، قاله قتادة، فيكون وعداً. وقيل: إلا ذو عقل. وقيل: ذو خلق حسن، وكرر {وما يلقاها} تأكيداً لهذه الفعلة الجميلة الجليلة. وقيل: الضمير في يلقاها عائد على الجنة. وحكى مكي: {وما يلقاها}: أي شهادة أن لا إله إلا الله، وفيه بعد.
ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة، فأمره، إن عرض له ذلك، أن يستعيذ بالله، فإن ذلك من نزغ الشيطان، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف.
ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار، وقدم ذكر الليل، قيل تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود، وناسب ذكر الشمس بعد النهار، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس. ثم نهى تعالى عن السجود لهما، وأمر بالسجود للخالق تعالى. وكان ناس يعبدون الشمس، كما جاء في قصة بلقيس وقومها. والضمير في {خلقهن} عائد على الليل والنهار والشمس والقمر. قال الزمخشري: لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أي الإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهن. انتهى، يريد ما لا يعقل من الذكر، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة، تقول: الأجذاع انكسرت على الأفصح، والجذوع انكسرن على الأفصح.
والذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلة، أعني بلفظ واحد، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد. وقال الزمخشري: ولما قال: {ومن آياته}، كن في معنى الآيات، فقيل: {خلقهن}. انتهى، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور.
وقيل: يعود على الآيات المتقدم ذكرها. وقيل: على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً. {إن كنتم إياه تعبدون}: أي إن كنتم موحدين غير مشركين، والسجدة عند الشافعي عند قوله: {تعبدون}، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها، وعند أبي حنيفة عند قوله: {لا يسأمون}، لأنها تمام المعنى، وفي التحرير: كان علي وابن مسعود يسجدان عند {تعبدون}. وقال ابن وهب والشافعي: عند {يسأمون}، وبه قال أبو حنيفة، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين. انتهى ملخصاً.
{فإن استكبروا}: أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه، {وهم لا يسأمون}: أي لا يملون ذلك، وهم خير منكم، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم. ولما ذكر شيئاً من الدلائل العلوية، ذكر شيئاً من الدلائل السفلية فقال: {ومن أياته أنك ترى الأرض خاشعة}: أي غبراء دارسة، كما قال:
ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع ***
استعير الخشوع لها، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها، بخلاف أن تكون معشبة وأشجاراً مزهرة ومثمرة، فذلك هو حياتها. وقال السدّي: خاشعة ميتة يابسة، وتقدّم الكلام على قوله: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} تفسيراً وقراءة في أوائل سورة الحج. {إن الذين أحياها لموحي الموتى}: يرد الأرواح إلى الأجساد، {إنه على كل شيء قدير}: لا يعجزه شيء تعلقت به إرادته.


لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل، فقال: {إن الذين يلحدون بآيتنا}، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه، وفي ذلك تهديد لهم. وقال قتادة: هنا الإلحاد: التكذيب، ومجاهد: المكاء والصفير واللغو. وقال ابن عباس: وضع الكلام غير موضعه. وقال أبو مالك: يميلون عن آياتنا. وقال السدي: يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات. ثم استفهم تقريراً: {أفمن يلقى في النار}، بإلحاده في آياتنا، {خير أم من يأتي آمناً}، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمناً، لكنه، كما قلنا، استفهام تقرير، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح جهله، ونبه بقوله: {يلقى في النار} على مستقر الأمر، وهو الجنة، وبقوله: {آمنا} على خوف الكافر وطول وجله، وهذه الآية، قال ابن بحر: عامة في كل كافر ومؤمن. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان. وقيل: فيه وفي عمار بن ياسر. وقيل: فيه وفي عمر. وقيل: في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب. وقال الكلبي: وأبو جهل والرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما تقدم ذكر الإلحاد، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به. ولم يكن التركيب: أم من يأتي آمناً يوم القيامة كمن يلقي في النار، كما قدم ما يشبهه في قوله: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} وكما جاء في سورة القتال: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء علمه} {اعلموا ما شئتم}: وعيد وتهديد بصيغة الأمر، ولذا جاء {إنه بما تعملون بصير} فيجازيكم بأعمالكم.
{إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم}: هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم، والذكر: القرآن هو بإجماع، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل: مذكور، وهو قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد}، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة. سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذاً، فقال له أبو عمرو: وإنه منك لقريب {أولئك ينادون}. وقال الحوفي: ويرد على هذا القول كثرة الفصل، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم، وهو قوله: {والذين لا يؤمنون في آذناهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون}. وقيل: محذوف، وخبر إن يحذف لفهم المعنى. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب، فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان.
وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون. وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن، وهو قوله: {أفمن يلقى في النار}. انتهى، كأنه يريد: دل عليه ما قبله، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {إن الذين كفروا بالذكر}؟ قلت: هو بدل من قوله: {إن الذين يلحدون في آياتنا}. انتهى. ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه، لأنه ادّعى أن قوله: {إن الذين كفروا بالذكر} بدل من قوله: {إن الذين يلحدون}، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل، فيكون التقدير: {إن الذين يلحدون في آياتنا}، {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} لا يخفون علينا. وقال ابن عطية: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد {حكيم حميد}، وهو أشد إظهاراً، لأن قوله: {وإنه لكتاب عزيز} داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه. انتهى، وهو كلام حسن.
والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن، وذلك في قوله: {لا يأتيه بالباطل}: أي الباطل منهم، أي الكافرون به، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه، أو تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين، أي لا يأتيه باطلهم، أو يكون الخبر قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك. ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك، وفي الآخرة بالعذاب الدائم. وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن، وهو موجود، نحو قوله: السمن منوان بدرهم: أي منوان منه والبركرّ بدرهم: أي كر منه. وعن بعض نحاة الكوفة: الخبر في قوله: {وإنه لكتاب عزيز}، وهذا لا يتعقل. {وإنه لكتاب عزيز}: جملة حالية، كما تقول: جاء زيد وأن يده على رأسه، أي كفروا به، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع. وقال ابن عباس: عزيز كريم على الله تعالى. وقال مقاتل: ممتنع من الشيطان. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله، {لا يأتيه بالباطل} من جعل خبر إن محذوفاً، أو قوله: {أولئك ينادون}، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه {من بين يديه ولا من خلفه}، تمثيل: أي لا يجد الطعن سبيلاً إليه من جهة من الجهات، فيتعلق به.
وأما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم، ومن تأويل بعضهم له، كالباطنية، فقد رد عليهم علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم. وقال قتادة: الباطل الشيطان، واللفظ لا يخص الشيطان. وقال ابن جبير والضحاك: {من بين يديه}: أي كتاب من قبله فيبطله، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو: أورس النبات فهو وارس، أي مورس، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدراً، فيكون كالعافية. وقيل: {من بين يديه}: أي قبل أن يتم نزوله، {ولا من خلفه}: من بعد نزوله. وقيل عكس هذا. وقيل: {من بين يديه}: قبل أن ينزل، لأن الأنبياء بشرت به، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك، {ولا من خلفه}: بعد أن أنزل. وقال الطبري: {من بين يديه}: لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل، {ولا من خلفه}: لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه. {تنزيل}: أي هو تنزيل، {من حكيم}: أي حاكم أو محكم لمعانية، {حميد}: محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم.
{ما يقال لك}: يقال مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى، كما تقدم تأويلها فيه، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع. وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون. {إن ربك}: تفسير لقوله: {ما قد قيل}، فالمقول {إن ربك لذو مغفرة} للطائعين، {وذو عقاب أليم} للعاصين، وهذا التأويل فيه بعد، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله: {إن ربك لذو مغفرة وذو غقاب أليم}، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة. فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحاً، وكان قوله تعالى: {إن ربك} استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل. ويحتمل أن يكون القائل الكفار، أي مايقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب. ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم، وفيه الترجئة بالغفران، والزجر بالعقاب، وهو وعظ وتهديد. وقال قتادة: عزى الله نبيه وسلاه بقوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، ومثله كذلك: {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته، وأنهم لا يخفون عليه، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم، وقولهم: هل أنزل بلغة العجم؟ فقال: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً}: أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب، لم يتركوا الاعتراض، و{لولا فصلت أياته}: أي بينت لنا، وأوضحت حتى نفهمها.
وقرأ الجمهور: آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين. وقرأ الإخوان، والأعمش، وحفص: بهمزتين، أي وقالوا منكرين: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله: {أعجمي}، ونحن عرب ما لنا وللعجمة. وقال ابن عطية: لانهم ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن. انتهى. ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً}، من اقتراحهم أن يكون أعجمياً، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجمياً وعربياً. وقرأ الحسن، وأبو الاسود، والجحدري، وسلام، والضحاك، وابن عباس، وابن عامر بخلاف عنهما: أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين، فقيل معناه: أنهم قالوا: أعجمة وأعراب، إن هذا لشاذ. وقال ابن جبير معناه: لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجمياً بفهمه العجم، وبعضه عربياً يفهمه العرب. وقال صاحب اللوامح: لأنهم لما قالوا: {لولا فصلت آياته}، أعادوا القول ثانياً فقالوا: {أعجمي}، وأضمر المبتدأ، أي هو أعجمي، والقرآن، أو الكلام، أو نحوها، والذي أتى به، أو الرسول عربي، كأنهم كانوا ينكرون ذلك. وقرأ عمرو بن ميمون: أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا، لأنهم لا يطلبون الحق. وقال صاحب اللوامح: والعجمي المنسوب إلى العجم، والياء للنسب على الحقيقة؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي، والله أعلم. انتهى، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها. تقول العرب: رجل أعجم ورجل أعجمي، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة، نحو: أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول: أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي؟ لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر. ألا تراك تقول: وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة، اللباس طويل واللابس قصير؟ ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لإن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما.
انتهى، وهو حسن، إلا أن فيه تكثيراً على عادته في حب الشقشقة والتفهيق.
{قل هو}: أي القرآن، {للذين آمنوا هدى وشفاء}، هدى: أي إرشاد إلى الحق، وشفاء: أي لما في الصدور من الظن والشك. والظاهر أن {والذين لا يؤمنون} مبتدأ، و{وفي آذانهم وقر} هو موضع الخبر. وقال الزمخشري: هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم، أي الكافرين، ولا يضطر إلى إضمار هو، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمماً عن سماعهم. ثم أخبر أنه عليهم عمى، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص، وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله: {للذين آمنوا}، والتقدير: وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف، وهو من العطف على عاملين، وفيه مذاهب كثيرة في النحو، والمشهور منع ذلك. وقرأ الجمهور: عمى بفتح الميم منوناً: مصدر عمى. وقرأ ابن عمرو، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وابن هرمز: بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب القارئ، وأبو حاتم: لا ندري نونوا أم فتحوا الياء، على أنه فعل ماض وبغير تنوين، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس. والظاهر أن الضمير في {وهو عليهم} عائد على القرآن، وقيل: يعود على الوقر. {أولئك} إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ومن جعله خبراً، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم. {ينادون من مكان بعيد}، قيل: هو حقيقة. قال الضحاك: ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب. وقال علي ومجاهد: استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادي من بعد، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه. وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، أي كأنه ينادي من موضع بعيد، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وحكى النقاش: كأنما ينادون من السماء.
{ولقد آتينا موسى الكتاب} تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر، فذكر أن موسى عليه السلام أوتي الكتاب، وهو التوراة؛ فاختلف فيه. وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه السلام، والكلام على نظير {وما ربك بظلام للعبيد} في قوله في سورة الحج: {وأن الله ليس بظلام للعبيد}


لما ذكر تعالى {من عمل صالحاً} الآية، كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة، وكأن سائلاً قال: ومتى ذلك؟ فقيل: لا يعلمها إلا الله، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها، وإنما يرد ذلك إلى الله. ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وشيبة، وقتادة، والحسن بخلاف عنه؛ ونافع، وابن عامر، في غير رواية: أي جلية؛ والمفضل، وحفص، وابن مقسم: {من ثمرات} على الجمع. وقرأ باقي السبعة، والحسن في رواية طلحة والأعمش: بالإفراد. ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإنات وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم، ناسب أن يذكر مع علم الساعة، إذ في ذلك دليل على البعث، إذ هو إعادة بعد إعدام، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم، وسؤالهم سؤال الوتبيخ فقال: {ويوم يناديهم أين شركائي}: أي الذين نسبتموهم إليّ وزعمتم أنهم شركاء لي، وفي ذلك تهكم بهم وتقريع. والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله، فيندرج فيه عباد الأوثان. {قالوا آذناك}: أي أعلمناك، قال الشاعر:
آذنتنا ببينها أسماء *** رب ثاو يملّ منه الثواء
وقال ابن عباس: أسمعناك، كأنه استبعد الإعلام لله، لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علماً واجباً، فالإعلام في حقه محال. والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المنادين، لأنهم المحدث معهم. {ما منا} أحد اليوم، وقد أبصرنا وسمعنا. يشهد أن لك شريكاً، بل نحن موحدون لك، وما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ. وقيل: الضمير في قالوا عائد على الشركاء، أي قالت الشركاء: {ما منا من شهيد} أضافوا إلينا من الشرك، وآذناك معلق لأنه بمعنى الإعلام. والجملة من قوله: {ما منا من شهيد} في موضع المفعول. وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب. والظاهر أن قولهم: {آذناك} إنشاء، كقولك: أقسمت لأضربن زيداً، وإن كان إخباراً سابقاً، فتكون إعادة السؤال توبيخاً لهم. {وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل}: أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة، أو {وضل عنهم}: أي تلفت أصنامهم وتلاشت، فلم يجدوا منها نصراً ولا شفاعة، {وظنوا}: أي أيقنوا. قال السدي: {ما لهم من محيص}: أي من حيدة ورواغ من العذاب. والظاهر أن ظنوا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي ظنوا. وقيل: تم الكلام عند قوله: {وظنوا}، أي وترجح عندهم أن قولهم: {ما منا من شهيد} منجاة لهم، أو أمر يموهون به. والجملة بعد ذلك مستأنفة، أي يكون لهم منجماً، أو موضع روغان.
{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير}: هذه الآيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة؛ وقيل: في عتبة بن ربيعة، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول. وقرأ عبد الله: من دعاء بالخير، بباء داخلة على الخير، وفاعل المصدر محذوف تقديره: من دعاء للخير، وهو وإن مسه الشر، أي الفقر والضيق، {فيئوس}: أي فهو يؤوس قنوط، وأتى بهما صيغتي مبالغة. واليأس من صفة القلب، وهو أن يقطع رجاءه من الخير؛ والقنوط: أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر. وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار. {ولئن آذقناه رحمة منا}: سمي النعمة رحمة، إذ هي من آثار رحمة الله. {من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي}: أي بسعيي واجتهادي، ولا يراها أنها من الله، أو هذا لي لا يزول عني. {وما أظن الساعة قائمة}: أي ظننا أننا لا نبعث، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع، كما قال تعالى حكاية عنهم: {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} {ولئن رجعت إلى ربي}: ولئن كان كما أخبرت الرسل، {إن لي عنده}: أي عند الله، {للحسنى}: أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة، كما أنعم عليّ في الدنيا، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن، وتدخل لام التأكيد عليه أيضاً، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل. ولم يقولوا للحسنة، أي الحالة الحسنة. وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: للكافر أمنيتان، أما في الدنيا فهذه {إن لي عنده للحسنى}، وأما في الآخرة {يا ليتني كنت تراباً}. {لفننبئن الذين كفروا بما عملوا} من الأفعال السيئة، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة. {ولنذيقنهم من عذاب غليظ} في مقابلة {إن لي عنده للحسنى}. وكني بغليظ: العذاب عن شدته. {وإذا أنعمنا}: تقدم الكلام على نظيره هذه الجملة في {سبحان} إلا أن في أواخر تلك كان يؤوساً، وآخر هذه {فذو دعاء عريض}: أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره. والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة. يقال: أطال فلان في الظلم، وأعرض في الدعاء إذا كثر، أي فذو تضرع واستغاثة. وذكر تعالى في هذه الآية نوعاً من طغيان الإنسان، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع.
{قل أرأيتم إن كان}: أي القرآن، {من عند الله}: أبرزه في صورة الاحتمال، وهو من عند الله بلا شك، ولكنه تنزل معهم في الخطاب. والضمير في {أرأيتم} لكفار قريش. وتقدم أن معنى أرأيتم: أخبروني عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه. {من أضل منكم}، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزئون بآيات الله.
وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور، أو محذوف، وإلى ثانٍ الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية. فالمفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم أنفسكم، والثاني هو جملة الاستفهام، إذ معناه: من أضل منكم أيها الكفار، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال: {سنريهم آياتنا في الآفاق}. قال أبو المنهال، والسدي، وجماعة: هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر. {وفي أنفسهم}: أراد به فتح مكة، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب، ووقع كما أخبر. وقال الضحاك، وقتادة: {في الآفاق}: ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً، {وفي أنفسهم}: يوم بدر. وقال عطاء، وابن زيد: في آفاق السماء، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك، وفي أنفسهم عبرة الإنسان بجمسه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك. ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم، لأن هلاك الأمم المكذبة قديماً، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك، قد كان ذلك كله مريباً لهم، فالقول الأول أرجح.
وأخذ الزمخشري هذا القول وذيله فقال: يعني ما يسر الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللخلفاء من بعده، وأنصار دينه في آفاق الدنيا، وبلاد المشرق والمغرب عموماً، وفي ناحية العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود خارقة للعادة، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله، وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علماً من أعلام الله وآية من آياته تقوى معها النفس ويزداد بها الإيمان ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه. انتهى ما كتبناه مقتصراً عليه. {حتى يتبين لهم أنه}: أي القرآن، وما تضمنه من الشرع هو الحق، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب، و{بربك}: الباء زائد، التقدير: أوَلم يكفك أو يكفهم ربك، و{أنه على كل شيء شهيد} بدل من ربك. أما حالة كونه مجروراً بالباء، فيكون بدلاً على اللفظ. وأما حالة مراعاة الموضع، فيكون بدلاً على الموضع، وقيل: إنه على إضمار الحرف أي أوَلم يكف ربك بشهادته، فحذف الحرف، وموضع أن على الخلاف، أهو في موضع نصب أو في موضع جر؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب، وفاعل كفى إن وما بعدها، والتقدير عنده: أوَلم يكف ربك شهادته؟ وقرئ: إن بكسر الهمزة على إضمار القول، وألا استفتاح تنبه السامع على ما يقال. وقرأ السلمي والحسن: في مرية بضم الميم، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.

1 | 2